ثقافة الفتوى الحاسمة
في كثير من الأحيان نتلقى عدداً كبيراً من الأسئلة سواء عبر الهاتف، أو في لجان الإفتاء، أو عبر الشبكة العنكبوتية، نطالب فيها بإجابات حاسمة لكثير من القضايا الفقهية بعيداً عن خلاف الفقهاء، وخذ على سبيل المثال لا الحصر تغطية وجه المرأة، وتشقير الحواجب، وبيع العربون، وبيع التورق..... الخ من القضايا المختلف فيها. وفي الحقيقة ليس ثمة إشكال في اختلاف الفقهاء حول مثل هذه المسائل؛ لأن ذلك متعلق بالدليل ومن قال به، فأغلب الأدلة ظنية الدلالة مما يكون للاجتهاد فيها حظ كبير، وبما أن الفهم والتصور البشري للمسائل الحادثة متفاوت فلابد وأن ثمة اختلافاً، وعلى كلٍّ فالنتائج كلها تصب في مجرى واحد وهو تحري مراد الشارع في الحادثة، ولكن أوتينا من حيث ندري أو لا ندري عدم فهم ثقافة الاختلاف المحمود، نعم نحن وبلا أدني شك نتمنى أن المسلمين لم يختلفوا في أدنى مسألة فرعية، لكن الواقع يرد هذه الأمنية؛ فهي ضرب من الخيال، والحديث حول كون الاختلاف شرٌّ، ومحاولة تطويع هذه العبارة للاختلاف الفقهي خطأ لا ينبغي الولوج فيه؛ وذلك لسلسلة الاختلاف في مدلول النص وطرق الاستنباط، من لدن زمن النبي r إلي يومنا هذا، وابتداءً من الحادثة الشهيرة (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة)، والتي قد يكون لها صويحبات أخر لم تصل إلينا، مروراً باختلافات الصحابة؛ ومنها رخص ابن عباس وعزائم ابن عمر، إلي عصر النهضة الفقهية التأصيلية في صدر الخلافة العباسية والتي أرست قواعد وأصول الفقه على بر الأمان بعيداً عن عبث العابثين، حيث أصلت وقعدت الفقه على فهم الصحابة رضي الله عنهم حسب فهم ذلك العصر؛ فانبثقت منها الأقوال الفقهية التي كتب الله لها الخلود إلى يومنا هذا، لاسيما المذاهب الأربعة المعتبرة، مؤصلين بذلك تأصيلاً تاريخياً أن قبول الخلاف الفقهي من الأدب في الدين، وأن حمل الناس على فتوى واحدة، وأن الحق فيها؛ لاسيما فيما اختلف الناس فيه؛ يعد ضرباً من التطرف والغلو، وأنا هنا في هذه المقالة لا أدعو إلى ترك إعمال العقل في الأدلة والنظر في أقوال الفقهاء أبداً وكلا، إنما قصدت أن لا نحجر على الناس، وأن الاختلاف حقيقة تاريخية لا نستطيع إلغاءها، وليس بوسعنا تحقيق ما لم يحققه سلف الأمة، وإن كنا حريصين فعلاً على تطبيق ما كان عليه سلف الأمة؛ فليسعنا ما وسعهم من خلاف، ولا نشدد على الناس فيشدد الله علينا، وأن القول إذا جاء ممن هو ثقة في دينه وعلمه واجتهاده لا سيما المذاهب المعتبرة الأربعة الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية؛ فلا ينبغي علينا أن نعيب من قلدهم في ذلك، وأن دعوى مخالفة الدليل لنا معها وقفة أخرى مطولة إن شاء الله تعالي، فينبغي أن ندرب أنفسنا وغيرنا على قبول القول الآخر المعتبر، وليس ثمة فتاوى حاسمة في مسائل مختلف فيها اختلافاً معتبراً.
بقلــم/ تركي عيسى المطيري
مدير إدارة الإفتاء